قصص قصيرة · أناقة يومية · سفر وسياحة

البدلة المخملية

ليلى

في يوم بارد ومغيم من أيام لندن الباردة، دخلت ليلى وصديقتها هاجر إلى متجر صغير، ماركة محلية غير معروفة. وهذا تمامًا ما تفضله ليلى عندما تسافر، وهو التبضع في متاجر صغيرة منزوية في جادات غير مزدحمة. دخلوا الصديقات وتتعالي ضحكاتهن وتعليقاتهن الحميمة، على ذلك الشراب الملون الذي بالتأكيد سيعجب أخت ليلى وهذه الكنزة التي لا تدري هاجر أهي كنزة رائعة الجمال؟ أم متناهية في القبح؟ هناك شعرة فارقة بين الأمرين، وأحيانًا يصعب تميزها.

عندما تدخل ليلى أي محل فإنها تتوجه فورًا إلى منطقة التصفية، لمعاينة البضائع هناك، فمن تجربتها بعد سنوات من التبضع من التخفيضات بأن هذه المنطقة تحتوي على شئين لا ثالث لهما إما ملابس ذات ذوق سيئ أو ملابس في غاية الجمال لكن مقاسات غير شائعة. لكن رغم ذلك يجب عليها التأكد بنفسها، لأنه أحيانًا يكون مقاسها غير رائج! فهي ذات جرم صغير وذوق غير متوقع.

وجدت ليلى بدلة مخملية سوداء ذات طبعات باهتة لورود حمراء وعروقها الخضراء، وقصة صدر مربع ذات تصميم قديم . تفقدتها وتذكرت بأنه لا يعجبها البدلات الكاملة على شكل جسمها، تلك التي تأتي متصلة تمامًا أو ما يسمى بالجمب سوت، سألت صديقتها هاجر عن رأيها، فاقترحت عليها تجربتها في غرفة التبديل.

عندما لبست ليلى البدلة، عرفت فورًا بأنها ستقتنيها! فهي أول مره تقتنع بشكلها في بدلة كهذه، ربما قصة الصدر ذات الطابع الكلاسيكي القديم، أو ملمس المخمل الناعم على جسدها، أو تصميم البدلة التي لم تكن كالبدلات التي جربتها في السابق وانتهى بها المآل إلى جمعيات التصديق.

قطع حبل تفكير ليلى صوت صديقتها هاجر خلف الباب وهي تقول “هاه بشري؟” وعندما فتحت الباب لتُري صديقتها البدلة، صاحت هاجر يجب أن تقتنيها فهي صنعت لأجلك! فكرت ليلى بأنه لا يوجد هناك أي مناسبة، لكن هذا لا يمنع، فهي تعلمت من أمها بأن تبني قطعًا في خزانتها شيئًا فشيئًا حتى وإن لم تحتجها في الوقت القريب، فإن المناسبات حتمًا ستظهر.

خرجت ليلى من غرفة التبديل وهي مبتهجة، فالبدلة مثالية وسعرها قد انخفض ٥٠٪ من السعر الأصلي، اتجهت فورًا إلي السيدة لتحاسب، وقالت لها السيدة اختيار موفق، هل هناك مناسبة لهذا الفستان؟ ردت ليلى بكل حبور لا لكن أحب أن أجهز الفستان قبل أن تأتي المناسبة، فضحكت السيدة قائلة أوه أعلم تمامًا ما تعنين!

عادت ليلى إلى الديار، ووظبت أغراضها التي اشترتها، وعندما رأت البدلة انتابها الشعور بالامتنان بأنها اشترتها، قصصت ورقة السعر المعلقة عليها فهي لا تحب أن تضع الملابس بأسعارها في الخزانة، تحب أن ترحب بها في بيتها الجديد بلا أي قيود وأسعار.

وبعد شهر ونصف، دُعيت ليلى إلى حفلة عشاء، وحينها خطرت على بالها البدلة المخملية وتساءلت هل ألبسها الآن أم اتركها لمناسبة أكبر؟ آه السؤال المُحير، لكن بسرعة طردت من بالها الفكرة وقالت سألبسه الآن لا أعرف ما السبب وراء حفظ الأشياء لمناسبات خاصة؟ كل يوم هو مناسبة خاصة للاحتفاء بالمقتنيات الجميلة. وتذكرت أحد الفساتين الذي ظلت تحفظه لمناسبة خاصة لم تأتِ إلى أن أصبح الفستان قديمًا ولم تتنعم به. لا يهم ستلبسه الآن ثم ستعيد لبسه في مناسبات أخرى. كل الأميرات يكررن ملابسهن فهذه الأميرة كيت ميدلتون وقبلها الأميرة ديانا كنّ يعدن اللبس في أكثر من مناسبة وينشأن معه علاقة خاصة وذكريات كثيرة تليق به.

جاءت ليلة المناسبة، وارتدت ليلى البدلة وتزينت بعقد لولو مطعم بحبات ألماس، ووضعت مساحيق التجميل ثم رسمت كحلها الذي اتقنته بعد شهور من التدريب، ولبست حذاء عنابي بلون الورود في البدلة، واستعارت من أمها شنطة صغيرة بجلد التمساح بلون عنابي. نظرت ليلى إلى المرآة وأحست بالثقة والجمال، والشعور الجميل الذي تحسه المرأة عندما تلبس تمامًا ما يشببها ويعبر عن شخصيتها.

لوسي

 أنزلت لوسي طفليها في المدرسة ثم ذهبت مشياً على الأقدام إلى محل البقالة ويتروز لشراء حاجيات المنزل، الجو بارد اليوم وابنتها طلبت منها أن تعد لهم حساء الطماطم مع شطائر الجبن للعشاء بعد المدرسة. تحب لوسي الأيام التي يطلب فيها أطفالها أو زوجها ماذا تعد لهم تحديدًا، فهذا يريحها من عناء التفكير المستمر بماذا ستطبخ.

لوسي هي المسؤولة عن ميزانية الطعام وشراء المقاضي اليومية، يعطيها زوجها مبلغًا مقطوعًا كل شهر وهي تتصرف به. في الآونة الأخيرة ومع التضخم الذي أصاب العالم كله بعد أزمة كورونا، اضطرت عائلتها بأن تقتصد في الكثير من المصروفات، خصوصًا وأن لوسي لا تعمل حاليًا، فهي متفرغة كليًا لطفليها.  

ابتاعت لوسي الطماطم الطازجة، والفلفل الأحمر، والريحان ثم ذهبت إلى قسم الأجبان الطازجة وطلبت من البائع أن يعطيها ربع كيلو من جبن الشيدر وربع كيلو من جبن الموزريلا وأن يبشرهما لها. ثم عرجت إلى مخبز البقالة لتشتري خبز الخميرة (الساوردو) الطازج. حاسبت لوسي على الحاجيات، ووضعتها في كيسها القماشي. كانت ستذهب للبيت لتحتسي الشاي وتقرأ قليلًا ثم تغسل الملابس الملونة، فهذا هو يوم الملابس الملونة. وترتب البيت قليلًا قبل أن يحين وقت طلوع الأطفال. لكنها حين خرجت رأت المحلات كلها متزينة بزينة أعياد الميلاد، فقررت أن تتمشى قليلًا في الجوار.

كانت لوسي تمشي حين لفتتها بدلة مخملية في غاية الرقة، تلبسها المليكان على نافذة إحدى المحلات. دنت لوسي من النافذة وأخذت تعاين البدلة، ستبدو هذه البدلة رائعة في حفلة عيد الميلاد التي تقيمها أم زوجها كل سنة. لا تذكر لوسي متى كانت آخر مره اقتنت فيها رداء جديد، فهي تقتصر على التبضع من المحلات التي تبيع الملابس المستخدمة استخدامًا طفيفًا وبسعر زهيد. لكن حتى تلك المحلات كانت أكثر مشترياتها لطفليها وليس لها.

كانت لوسي ستكمل طريقها، لولا أن هناك صوت طفيف في أعماقها حثها على تجربة البدلة، سعرها على الأحرى سيكون كل مبلغ ميزانية الطعام للشهر، لكن لا ضير في أن تجربها وتحلم.

دخلت لوسي للمحل، وسألت البائعة عن البدلة، وقالت لها بأن هناك حبتين منها فقط، فقبل يومين جاءت شابة اشترت مقاس ١٠ والمتوفر فقط هو مقاس ١٢ المعروض على النافذة. ابتسمت لوسي وقالت إنه مقاسها وترغب في تجربته إذا أمكن، ابتسمت البائعة وقالت بالتأكيد وصحبتها إلى غرفة التبديل.

ارتدت لوسي البدلة، وأخذت تتأمل شكلها فيها، وتذكرت كيف كانت قبل أن تنجب أطفالها كيف كانت تحب أن تكون دائمًا بأبهى حلة، وشكلها في الحفلات مبهر وراقي. لكن ليس بعد أن أصبحت أمًا، وصارت كسائر الأمهات يؤثرن الجميع إلا أنفسهن، يهمها أن يكونوا أطفالها مرتبين، وزوجها ملابسة نظيفة ومكوية.. لكن هي؟ لم تفكر لا في شكلها ولا في تفضيلاتها، وأصبحت ترتدي الملابس العادية والعملية، والتي لا تبرز جمالها ولا حتى رشاقتها.  خرجت لوسي من غرفة التبديل ومعها البدلة، وسألت البائعة عن سعرها فقالت إنها من ضمن التصفية وعليها خصم ٥٠ بالمئة، أجرت لوسي الحسابات في مخها، واكتشفت بأن سعرها مناسب جدًا، ولو أنها اقتصدت هذا الأسبوع في مقاضي العشاء، ستوفر هذا المبلغ بكل سهولة. لم تتمالك لوسي فرحتها وقالت نعم سأشتريه، لفيه لي من فضلك بورق هدايا وتخلصي من ورقة السعر.

غمزت لها البائعة قائلة أوه إنها هدية، من هي المحظوظة التي سترتدي هذه البدلة يا ترى؟ قالت لوسي بكل بهجة: أنا.

جاءت ليلة عيد الميلاد، وارتدت لوسي بدلتها وزينتها بأقراط من الزمرد الأخضر تعكس لون عينيها، والتي أهداها لها زوجها منذ سنوات، وسرحت شعرها وزينت وجهها بمساحيق التجميل الخفيفة والتي تناسب تقاسيم ملامحها الشقراء. واستعدت للذهاب للحفلة، عندما رأها زوجها خطفت أنفاسه، وقال لها بحب: يجب أن تكون هناك ميزانية خاصة لك ولجمالك، لقد نسيت كم جميلة أنتِ!

بدلة واحدة، اشترتها امرأة شرقية وامرأة غربية.. لكن تأثير التأنق والتزين على السيدات واحد! البعض يظن أنه مجرد رداء، لكنه في عين المرأة مقياس الاستحقاق.

مخرج:

هذه هي إحدى محاولاتي المتواضعة في تأليف أقصوصة، أحببت العمل عليها وفكرت في مشاركتكم بها، ما رأيكم يا أصدقاء؟ تعليقاتكم تسعدني جدًا وهي أكثر ما اشتاق إليه في المدونة، فلا تبخلوا بها.

6 رأي حول “البدلة المخملية

  1. أسعدتني الحكاية جدا ولامستني بحق قرأتها أثناء انتظاري للوصول الى محطتي بالمترو🥹💘Ibtisam 

    إعجاب

  2. اشتقت إليك كثيرا يا مها وللمدونه ، راضين بالمدونة اهم شي ما تختفين😅 ، الأقصوصة جميلة ودافئة ومع الممارسة في كتابتها أظنك ستبهرينا كما تعودتي

    Liked by 1 person

  3. احب هذه الأقصوصة و اعتقد انها قريبة لقلبي جداً اكثر مما تتخيلين !

    اعتقد ان هاجر في الجزء القادم ستقتني نفس البدلة المخملية، ذكرتني بسلسلة روايات the sisterhood of the traveling pants 🙂

    Liked by 1 person

أضف تعليق